وقفت يارا أمام واجهة متجر، تحدّق في انعكاس جسدها النحيل على الزجاج اللامع.
لم تعد تلك المرأة النابضة بالحياة، المليئة بالحيوية، والتي أبهرت الجميع بجمالها وشبابها.
ما بقي منها الآن كان مجرد ظل باهت لإنسانة فقدت صحتها، وانطفأت روحها، لكنها رغم كل شيء، رفضت أن تستسلم.
افتقرت إلى الكرامة، شوهت سمعتها، وعانت من سوء الصحة، ومع ذلك، لم تتوقف عن المحاولة.
استجمعت شجاعتها وواصلت بحثها عن وظيفة، مصممة على البدء من جديد.
بعد ساعات من البحث، لفت انتباهها إعلان أمام أحد المقاهي يبحث عن عمال خدمة، لم يكن الأجر كبيرًا، لكنه كان يتضمن وجبات وسكنًا، وهو ما احتاجته بشدة.
دخلت المقهى، حيث كانت الإضاءة الخافتة تخفي ملامحها الهزيلة، وبسبب نقص الموظفين، لم يتردد المدير في توظيفها على الفور.
ممتنة لهذه الفرصة، ارتدت زي العمل وبدأت مهامها فورًا.
في زاوية من المقهى، كانت وفاء وصديقتها المقربة مروة تستعدان للمغادرة بعد قضاء وقت ممتع.
لكن فجأة، التقطت عين مروة الحادة مشهدًا غير متوقع، يارا، منهمكة في ترتيب الطاولات.
سألت مروة، بصوت ينضح بالسخرية: وفاء، ألا تُشبه هذه النادلة يارا قليلًا؟
ردّت وفاء بازدراء: يارا؟ كنادلة؟ مستحيل، لقد خرجت من السجن اليوم فقط، لا يمكن أن تكون قد وجدت وظيفة بهذه السرعة.
لكن نظرة واحدة أخرى أكدت شكوكها.
إنها هي بالفعل.
ضحكت وفاء بسخرية: مذهل، خرجت من السجن وبدأت العمل فورًا، كأنها لم تستطع الانتظار حتى تعتمد على نفسها.
تألقت عينا مروة بخبث: هل نذهب لنلقي التحية؟
لكن وفاء رفعت يدها لتوقفها، عيناها تضيقان بمكر.
انتظري.
همست بشيء في أذن مروة، التي ابتسمت بدهاء، قبل أن تومئ بالموافقة.
كانت يارا مشغولة بترتيب الطاولات عندما اقترب منها المدير فجأة.
نزيل في الغرفة 808 أسقط زجاجة عصير، اذهبي ونظفيها فورًا.
لم تتردد يارا، أخذت معدات التنظيف وتوجهت مباشرة إلى الغرفة.
لكن عندما دخلت، فوجئت برؤية مروة وحدها، تجلس هناك بابتسامة متكلفة.
تعرّفت عليها فورًا.
مروة، صديقة وفاء المقربة، والسبب في معاناتها.
قبل أربع سنوات، عندما سُرقت القلادة، كانت مروة هي من شهدت زورًا ضدها، مما أدى إلى إدانتها وإرسالها إلى السجن.
تطايرت الشرارات في الهواء.
لكن رغم الغضب الذي اشتعل بداخلها، لم تسمح يارا لنفسها بالانجراف وراء مشاعرها، كانت بحاجة إلى هذه الوظيفة، ولم يكن لديها ترف خسارتها بسبب مواجهة حمقاء.
لذلك، كتمت غضبها، وانحنت بهدوء لتبدأ التنظيف.
لكن مروة لم تكتفِ بذلك.
بابتسامة خبيثة، أسقطت كأس عصير على الأرض عمدًا، ثم تنهدت بتكلف.
ما هذا؟ ألا تستطيعين حتى تنظيف شيء بسيط؟ هل تريدين مني أن أشتكي للمدير؟
راقبت يارا قطرات العصير المتناثرة على الأرض، وأخذت نفسًا عميقًا.
لن تنجرّ إلى لعبتهم، ليس هذه المرة.
شدّت يارا قبضتها على المنشفة فور سماع الشكوى، محاولةً ضبط أعصابها.
لكن قبل أن تتمكن من الرد، فُتح باب الحمام فجأة، وخرجت وفاء بخطوات واثقة، توقفت أمام يارا، وعيناها تمتلئان بدهشة مصطنعة.
يارا، كيف انتهى بكِ الأمر بالعمل كنادلة؟ يا إلهي، لو اكتشف سامي وأمي ذلك، لأصابهما الحزن.
إلى جانبها، رفعت مروة حاجبيها باندهاش زائف: هذه النادلة الخرقاء أختكِ؟ وفاء، هل أنتِ متأكدة من أنكِ لم تخطئي بينها وبين شخص آخر؟
راقبت يارا المشهد بلا تعبير، تدرك تمامًا أنهما تؤديان عرضًا سخيفًا.
أجابت ببرود: أريد فقط أن أقوم بعملي، أرجوكِ لا تُصعّبي الأمور عليّ.
لكن وفاء لم تتراجع، بدت وكأنها تتظاهر بالقلق، وسحبت المنشفة من يد يارا: لماذا تعملين هنا؟ هذا ليس مكانًا يليق بكِ، عائلتنا قادرة على إعالتك، إذا كنتِ بحاجة للمال، قولي لي.
حاولت يارا استعادة المنشفة، رافضةً أن تكون مدينة لهم بأي شيء، لم تكن متأكدة إن كان لقاؤها بوفاء ومروة مجرد مصادفة أم شيئًا مدبّرًا، لكنها لم تكن تريد التورط معهما.
كل ما أرادته هو كسب رزقها بشرف.
عادت لتنظيف الطاولة بصمت، متجاهلةً محاولات وفاء للمساعدة.
لكن وفاء أصرّت، متظاهرةً بالرغبة في المساهمة: يارا، دعيني أساعدكِ.
في خضم اندفاعها، أمسكت بزجاجة مكسورة دون أن تنتبه، فانغرست قطعة زجاج في إصبعها.
أطلقت صرخة ألم حادة.
نظرت يارا إلى يدها النازفة، واشتعل الغضب في عينيها: ماذا تفعلين؟
لكن قبل أن تتمكن من قول المزيد، انهمرت دموع وفاء، وكأنها ممثلة بارعة في ذروة مشهد درامي.
صرخت، بالكاد تلتقط أنفاسها بين شهقات البكاء: يارا، رؤية أختي تعمل وهي مصابة يُمزق قلبي، أردتُ فقط مساعدتكِ.
على الجانب الآخر، كانت مروة قد بدأت بالفعل في تسجيل المشهد بهاتفها بصمت، ملامحها تحمل لمحة من النشوة.
لكن يارا لم تكن ساذجة.
أخذت خطوة إلى الخلف، عيناها تتوهجان بالغضب: لا أحتاج مساعدتكِ، توقفي عن إزعاجي.
هنا، مسحت وفاء دموعها بطريقة درامية، وكأنها ضحية مظلومة.
سألت، صوتها مختنق بالبكاء: يارا، هل تكرهينني؟
تقدمت خطوة للأمام، وكأنها تعترف بجريمتها أمام الجميع.
في ذلك الوقت، كنتُ ساذجة، رأيتُ القلادة وأردتها بشدة حتى غلبني جشعي، أفعالي هي التي أدت إلى سجنكِ، وجعلتكِ تعانين كل هذه السنوات، أنا السبب في كل ما حدث لكِ، من حقكِ أن تكرهيني، لذا اضربيني، صُبّي عليّ غضبكِ، لعل ذلك يخفف عني هذا الذنب الذي يطاردني.
حدّقت يارا بها، سخريتها تزداد حدة.
كررت كلماتها بتهكم: أضربكِ؟ أوبّخكِ؟
ثم أكملت بصوت بارد: لقد عدتُ من حافة الموت، ليس لأريح ضميركِ.
في تلك اللحظة، لم يكن الألم الذي تشعر به نفسيًا فقط، بل جسديًا أيضًا.
كانت ساقاها المشلولة تنبضان بألم مستمر، لكنها لم تجد خيارًا سوى تحمله بصمت.
أحاط بها ضوء الغرفة الخاصة الخافت، مُلقيًا عليها بريقًا باهتًا، كأنها دمية فقدت روحها.
حدّقت وفاء في وجهها الخالي من التعابير، وشعرت بوخزة خوف خفية تتسلل إلى داخلها.
على الرغم من أن يارا بدت عاجزة، إلا أن هناك شيئًا في هدوئها كان يُنذر بقوة دفينة، قوة لا تحتاج إلى كلمات.
استدارت يارا قليلًا، تاركة النسيم يُداعب خصلات شعرها.
ثم قالت بصوت هادئ لكنه محمل بالمعاني: أنتِ الابنة الحقيقية لعائلة جمال، بينما كانت أمي الحقيقية مجرد مدبرة منزل استبدلتنا عمدًا، عانيتِ كثيرًا في تلك العائلة، لم يسمحوا لكِ حتى بالدراسة، وأرادوا تزويجكِ لرجل في الأربعين مقابل المال، صدقيني، لقد شعرتُ بكِ من أعماقي، لهذا عندما عدتِ إلى عائلة جمال، كنتُ مستعدةً لمنحكِ كل شيء، لم أكن أمانع أن أعيش معكِ في وئام، بل حتى كنتُ مستعدة للرحيل إن كان ذلك ما تحتاجينه.
توقفت للحظة، قبل أن تكمل بصوت أكثر ثباتًا: أردتُ أن أُعاملكِ كأختي الصغيرة، ليس فقط بمنحكِ حب الوالدين، بل أيضًا حب الأخت الكبرى، حتى عندما طلبت مني أمي فسخ خطوبتي، كان الأمر مؤلمًا، لكنني لم أُمانع، رغم مشاعري، ابتعدتُ عن كمال احترامًا لكِ، كنتُ صادقة معكِ تمامًا، لكن ماذا عنكِ؟ كيف عاملتِني؟
كانت وفاء تبكي بشدة، ويدها تغطي فمها وكأنها ضحية لظلم لا يُحتمل.
شاهدتها يارا ببرود، قبل أن ترفع حاجبها بسخرية واضحة.
قالت بصوت ساخر: هل يُمكنكِ التوقف عن البكاء؟ أنتِ تجعلين الأمر يبدو وكأنني كنتُ أتنمر عليكِ.
ثم تابعت: عندما عدتِ إلى العائلة، كنتِ تبكين بلا سبب، وكم مرة أساء سامي فهم الموقف وظنّ أنني أُضايقكِ؟
لم ترد وفاء، فقط واصلت نحيبها، مما جعل يارا تشعر وكأنها تؤدي مونولوجًا بمفردها.
أطلقت يارا زفرة مُحبطة، مدركة أنه لو كان سامي هنا، لكان وبّخها فورًا دون أن يفكر حتى في سماع جانبها من القصة.
لكن فجأة، وسط بكائها المتصاعد، همست وفاء بصوت مرتجف، قالت، قبل أن تنحني بعمق، ودموعها تنهمر بغزارة: يارا، أنتِ أختٌ طيبة، كان خطأي، وأنا آسفة، كنتُ غير ناضجة آنذاك، لم أقصد سجنكِ.
لكن يارا لم تُظهر أي تعاطف.
ضيّقت عينيها، وتصلب وجهها بنظرة لا يمكن إنكار جديّتها.
حقًا؟ هل كنتِ غير ناضجة فقط، أم أنكِ دبّرتِ لي فخًا عن قصد؟