في جيدونا، تحت وطأة الشتاء القارس، شعرت يارا وكأنها محاصرة في قبو جليدي بسبب البرد الذي كان يخترق عظامها.
داخل ورشة سجن النساء، كانت يارا سعد، مرتدية زي السجن، مشغولة بخياطة الأحذية.
كانت يداها منتفختين ومحمرتين، مليئتين بالبثور وجروح قضمة الصقيع، مما سبب لها ألمًا شديدًا لا يُحتمل.
وفي تلك اللحظة، اقترب منها أحد الحراس وناداها: يارا سعد، لقد دفعت عائلة جمال كفالتك، أنتِ حرة الآن.
تسبب ذكر اسم عائلة جمال في قشعريرة مفاجئة اجتاحت يارا، مما جعلها لوهلة غير قادرة على استيعاب ما قاله الحارس.
قبل أربع سنوات، تحولت حياتها بشكل غير متوقع، في عيد ميلادها الثامن عشر، عندما أصبحت قادرة قانونًا على اتخاذ قراراتها، تحولت من وريثة ثرية إلى مجرمة.
كانت والدتها البيولوجية، التي كانت تعمل كمدبرة منزل، قد غيرت هويتها سرًا، ومنحتها هوية ابنة عائلة جمال الحقيقية.
لكن عندما حاولت المدبرة ابتزاز يارا، انفجرت القضية بأسرها، منذ تلك اللحظة، قلبت حياتها رأسًا على عقب.
شهدت عائلة جمال وهم يتعانقون، يعبرون عن مشاعرهم وحبهم لبعضهم البعض، بينما هي كانت تقف على الهامش، مشوشة وغير قادرة على فهم ما يحدث.
حينها، اضطرت لتقبل الواقع المرير: لم يعد والداها اللذان عرفتهما طوال حياتها ملكًا لها.
بعد فترة، لاحظ أيمن جمال وقوف يارا وحيدة بجانبهم، محطمة.
فكر لحظة، ثم استجمع شجاعته وقال: يارا، حتى لو عادت وفاء، ستظلين دائمًا الابنة الكبرى لعائلة جمال، ومن الآن فصاعدًا، ستكون وفاء أختك الصغرى.
أدركت هبة كرم أنها لم تمنح يارا الاهتمام الذي تستحقه، فاقتربت منها وطمأنتها: يارا، سأظل أحبك وأعتني بك كما لو كنت ابنتي.
في تلك اللحظة، كانت يارا تؤمن بما قالته حقًا، لكن لم يكن الإذلال بعيدًا، إذ تم دعوة عائلة جمال إلى حفل عيد ميلاد فاتن حمدي، ابنة عائلة حمدي الرفيعة.
في المأدبة، شاهد الجميع وفاء وهي تسرق قلادة فاتن الثمينة، وشهدوا بأم أعينهم كيف اتهمتها صديقتها المقربة بالسرقة على الفور.
استشاطت فاتن غضبًا، وهددت بالاتصال بالشرطة لإيداع وفاء السجن.
ساد الصمت بين الحضور، ودون أن يدركوا، قرروا أن تحمل يارا مسؤولية تصرفات وفاء.
على الرغم من براءتها التامة، توسلت يارا وحاولت المقاومة، ولكنها شعرت وكأن العالم بأسره قد انقلب ضدها، وفي النهاية، أُرسلت إلى السجن.
في تلك اللحظة، أدركت أنها فقدت والديها إلى الأبد.
قالت الزعيمة في السجن، مازحة بنبرة ازدراء: مهلًا، هي ذاهبة لتستمتع بالحياة المريحة، أليس كذلك؟ يا سيدات، هل تعتقدن أنها ستنسانا بمجرد أن تخرج؟
في رد فعل غريزي، وجدت يارا نفسها راكعة على الأرض، توسلت: أنا آسفة، أنا آسفة، لقد أخطأت، أرجوك لا تضربيني.
عبس حارس السجن بتوتر وأجاب: يارا سعد، اخرجي.
فجأة، أدركت يارا أنها ستغادر، لم تعد الزعيمة التي اعتادت التنمر عليها تمثل تهديدًا لها بعد الآن.
تحت أنظارها، خفضت رأسها وابتعدت ببطء.
بعد أن أنهت إجراءات الإفراج، ارتدت ملابسها البالية، ثم رافقها حارس السجن إلى بوابة السجن.
من بعيد، رأت شخصًا طويل القامة ونحيلًا يتكئ على سيارة فاخرة.
كان الرجل يرتدي قميص أسود لامع، أزراره مفتوحة جزئيًا، عيونه السوداء كانت مشعة بهالة من السلطة والقوة.
حدّقت يارا في الشخص أمامها، دون أن تشعر بأي فرحة بلقاء من تحب، لكنها سرعان ما شعرت بالخوف، بدأت ساقها المصابة تؤلمها مجددًا.
كان سامي جمال، الرجل الذي اعتبرته أخاها الأكبر طوال الثمانية عشر عامًا الماضية.
ولتخفيف ضغط سيدة عائلة حمدي، رتب خصيصًا أن توليها الزعيمة في السجن اهتمامًا خاصًا، كان مصدر كل معاناتها في السجن.
كانت الرياح الباردة لاذعة، لكن ما كان أبرد من الشتاء هو قشعريرة قلب يارا.
مرت أربع سنوات.
ظنت يارا أن قلبها قد أصبح خاليًا من المشاعر، لكنها لا تزال تشعر بحزنٍ عميق.
ورغم كل شيء، قاومت رغبتها في البكاء.
بينما كانت تكبح مشاعرها السلبية، بدأ سامي بالسير نحوها.
كانت خائفة، بل مرعوبة، لكنها لم تجرؤ على التراجع، كانت تعلم أن الهروب لن يؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة.
وعلى الرغم من مغادرتها السجن، كان الرد المشروط قد ترسخ في داخلها بالفعل.
قالت وهي تنحني باحترام، وصوتها يعبّر عن مزيج من الخوف والانفصال: لقد مر وقت طويل، أنا آسفة.
دُهش سامي للحظة.
لم يرَ أحدهما الآخر منذ أربع سنوات، ولدهشته، بدأت تلك الأميرة المتغطرسة، التي كانت تعتبر نفسها فوق الجميع، أول لقاء لها معه باعتذار.
كان قد استعد لمواجهة ثورة يارا، متوقعًا منها أن تطالب بالعدالة كما فعلت قبل أربع سنوات، لكن بدلًا من أن تهاجمه، أرخَت كتفيها بهدوء، متخلية عن الوضع الذي كانت تتمسك به طوال الوقت.
بدت خائفة، وهو ما كان يأمله في أعماقه قبل أربع سنوات.
لم تكن قد وصلت إلى هذه المرحلة فحسب، بل كانت تبدو صادقة في مشاعرها.
في تلك اللحظة، شعر سامي بالعجز عن تقبّل ما يحدث، غمرته موجة من الحزن، وكأن قلبه قد جُرح من الداخل.
كان مثل أسد مهزوم، منفي في عالم من العزلة، لا يرافقه سوى البرد والظلام.
أخذ سامي نفسًا عميقًا وبدأ ببطء: لقد افتقدتك جدتي كثيرًا، وبسبب تقدمها في السن ومرضها، وقّعت سيدة عائلة حمدي خطاب مسامحة خصيصًا لضمان إطلاق سراحك من السجن.
عندما انتهى من حديثه، أدرك سامي أن تصرفاته لم تكن دافئة بما فيه الكفاية، اقترب منها، عازمًا على معانقتها برفق، لكنها تجنبته.
صُدم سامي للحظة، ثم فكر قليلًا.
خفت نبرته أكثر وهو يقول: لقد انتهى كل شيء الآن، ما زلتُ أخاكِ، تعالي معي.
انقبض قلب يارا بشدة.
هل ما زال أخي؟
كانت تنتظر هذه الكلمات طيلة هذا الوقت.
عندما سُجنت لأول مرة، كانت تنتظر في كل لحظة أن يأتي سامي لإنقاذها.
لم تصدق أن أخاها، الذي اعتنت به طوال ثمانية عشر عامًا، يمكن أن يكون بهذا القدر من القسوة.
لكن كلما تعاظم الأمل، تعمقت خيبة الأمل.
من الأمل البسيط إلى خيبة الأمل المتلاحقة، وصولًا إلى يأسٍ قاهر، أكّد الواقع بقسوة أن كل ما كان يحدث كان حقيقيًا.
لم تعد لديها عائلة.
وأصبح الطريق الذي كان يعتقد سامي أنه أنقذها به طريقًا مسدودًا في قلبها.
لذا، عندما ظهر أمامها الرجل الذي ادّعى أنه شقيقها، وقال إنه هنا ليأخذها بعيدًا، شعرت بشللٍ تام.
تراجعت خطوة إلى الوراء، ثم انحنت مجددًا، وقالت بنبرةٍ خالية من المشاعر: شكرًا لكِ، سيدتي، على توقيعكِ خطاب العفو، وشكرًا لكِ، سيدتي العجوز، على تذكيركِ بي، أنا السجينة السابقة، في أفكارها.
تحدثت بنبرة من الاحترام البارد، وكأن الدفء الذي كان بين أفراد العائلة قد اختفى تمامًا.
شعر سامي بالانزعاج من هذا البرود العميق، وضغط على أنفه قائلًا بنبرة حادة: رغم أنكِ قضيتِ أربع سنوات في السجن، قال أبي إنكِ ما زلتِ ابنة عائلة جمال، لا حاجة لأن تبقي عالقة في ماضيكِ.
بالنسبة له، لم تكن أخته الصغيرة، التي أحبها منذ الطفولة، مجرد سجينة سابقة.
لكن كلماته كانت كالضرب على المسامير في قلب يارا.
أربع سنوات في السجن تركت آثارًا أبدية.
كل يوم كان مليئًا بالإهانة، حيث كانت ترتدي زي السجن، وتشارك في أعمال شاقة، تعاني من الجوع والمرض، وأي خطأ كان يعرضها لعقوبات حراس السجن.
وكانت الزعيمة في السجن تجد دائمًا طرقًا جديدة لتصعيب حياتها.
لم تكن أيامها في السجن سوى سلسلة من العذاب، مصيرًا أشد قسوة من الموت.
كونها ابنة عائلة جمال كان يعني أن المعاملة كانت أقسى من أي وقت مضى.
عندما رأى سامي الحزن على وجه يارا، ربت على كتفها برفق، وتبدلت نبرته: هيا بنا نذهب إلى المستشفى لزيارة جدتنا، لا نريد أن نبقيها تنتظر.
ثم استدار وبدأ في السير نحو السيارة.
بعد لحظات، نظر إلى الوراء، فوجد يارا تسير خلفه بخطوات ثابتة، محافظة على مسافة معينة بينهما.
ما الذي يحدث؟ هل أنا وحش؟هل عليها حقًا أن تبتعد عني؟
بدأ سامي يسترجع اللحظات التي كانت فيها يارا تتشبث به مازحة، ما زاد من شوقه المضطرب.
عجل خطواته نحو السيارة.
أربع سنوات من العذاب كانت درسًا قاسيًا ليارا، لم تجرؤ على إزعاج عائلة جمال، فقد كانت تخشى أن تتحمل العواقب التي لا تستطيع مواجهتها.
ورغم أن الإصابة القديمة في ساقها كانت تسبب لها ألمًا مبرحًا، لم تجرؤ على التوقف ولو للحظة.
في عجلة من أمرها، تعثرت وسقطت، لكنها نهضت بسرعة واستمرت في التقدم.
عندما وصلت إلى السيارة، كان سامي قد دخلها بالفعل.
كان سائق عائلة جمال، قيس رستم، في مكانه المعتاد، وعندما خرج من السيارة، حيّاها قائلًا: مرحبًا، آنسة يارا جمال.
وفتح باب المقعد الخلفي.
لكن بدلًا من أن تجلس في المقعد الخلفي، فتحت يارا باب المقعد الأمامي ودخلت.
تفاجأ السائق قليلًا.
نزل سامي من السيارة، وفتح باب المقعد الأمامي بعنف، ثم سحب يارا إلى الخارج.
دفعها بقسوة نحو الأرض، وكأنها مجرد عائق: إذا كنتِ تعتقدين أنني مزعج إلى هذا الحد، فلا تعتقدي أنني أعتبركِ أختًا بعد الآن.
عضّت يارا شفتها، إذ تسببت ساقها المصابة في التواء كاحلها مجددًا، مما جعلها ترتجف من الألم.
غير مكترث لحالتها، استمر سامي في توبيخها: يارا، كنت أظن أنكِ نضجتِ، لكن يبدو أنكِ لا تزالين ساذجة، هل تعتقدين أن الجلوس في المقعد الأمامي سيؤذي أحدًا؟ هذا فقط يظهر أنكِ تُهينين نفسك بلا داعٍ، كيف تجرئين على التصرف هكذا؟ يبدو أنكِ لم تدركي تمامًا مكانتك، لا تتعبين نفسكِ بالسيارة، فقط امشي إلى المنزل، أحذرك، عندما تزورين الجدة في المستشفى، لا تظهري هذه الملامح الحزينة، لا أريد أن أزعجها.
وعندما انتهى من حديثه، أمر السائق قائلًا: انطلق.
رغم قلق قيس على يارا، إلا أنه لم يجرؤ على تحدي سامي، فانطلق بالسيارة.
وأثناء مشاهدتها للسيارة وهي تبتعد في الأفق، لم تشعر يارا بأي شيء.
لقد عاشت مرارة الهجر والخيانة منذ أربع سنوات.
لم يكن الأمر أنها لم تدرك مكانتها، بل كان سامي هو من نسي أنهم هم من أجبروا على إعادتها إلى مكانتها الأصلية، ومع ذلك كان يلومها، ساخرًا من عدم إدراكها لذلك.
قبضت يارا على يديها بشدة، ونهضت ببطء، مدركة أنه عليها اللحاق بهم بسرعة أو أنها ستغضب عائلة جمال.
وكان من المحتمل ألا تتحمل المزيد.
بعد أن قطعت مسافة قصيرة، عادت السيارة فجأة وتوقفت أمامها.
فُتحت النافذة، وتلاقت عيناها مع عيني سامي، الممتلئتين بالغضب: اركبي.