كان لدى هادي قاعدة صارمة في الاجتماعات الصباحية: يجب إغلاق الهواتف تمامًا. لكن في تلك اللحظة، حين التقط جمال هاتفه وأوشك على إنهاء المكالمة، قاطعه صوت هادي الحازم.
"أجب عليها!" صرخ هادي بلهجة آمرة.
حاول جمال التملص قائلًا: "أبي، إنه رقم مجهول، أنا..."
لكن هادي وضع فنجان الشاي جانبًا وقال بلهجة لا تقبل الرفض، "أجب على المكالمة وضعها على السماعة!"
تبادل باهر وجميل نظرات متعاطفة مع جمال، ولم يكن لديه خيار سوى أن يرد ويضع المكالمة على السماعة.
وفجأة، صُدم الجميع بسماع صوت صغير يتحدث.
"مرحبًا... هل هذا العم؟ أنا ليلي هيبة... أمي هي جميلة شاكر... هل أنت عمي جمال؟"
كان صوت الفتاة خافتًا ومنخفضًا، كأنه ينبعث من روبوت صغير بلا مشاعر، مما جعل تعابير وجوه عائلة شاكر تتغير كليًا.
لم يكن هناك أي كلام في الغرفة، كأن الجميع فقدوا القدرة على النطق، بينما انزلق غطاء قلم هادي من يده بشكل لا إرادي.
تكرر صوت الطفلة الرقيق عبر الهاتف: "العم... أنا باردة وجائعة جدًا... لم أدفع زوجة أبي، لكنهم لا يصدقونني... أجبرني أبي على الركوع عند البوابة... لكنني باردة... العم، هل ستساعدني..."
كانت كلمات ليلي تزداد ضعفًا، وخلفية العاصفة الثلجية كانت تضيف إلى برودة الموقف، وفجأة... انقطع صوتها.
عاد جمال إلى وعيه بسرعة، وأمسك الهاتف بيد مرتعشة، صارخًا بصوت مليء بالذعر، "مرحبًا، ليلي؟ أين أنتِ؟ أخبريني بموقعك الآن!"
لكن الرد لم يأتِ، وظل الصمت قاتمًا.
هادي، الذي بدا متماسكًا في البداية، فقد رباطة جأشه تمامًا. وقف مرتعشًا، وقد اختفت تعابير الجدية الصارمة عن وجهه، ليظهر في ملامحه عمره الحقيقي الذي بدا أثقل عليه.
"أسرعوا! ابحثوا في الرقم وتحققوا من الموقع فورًا!" صرخ هادي بانفعال.
في تلك الأثناء، كانت ليلي قد فقدت الوعي قبل أن تكمل المكالمة، وأسقطت الهاتف في الثلج.
عاد سامر إلى المكان للبحث عن هاتفه، وفوجئ برؤية ليلي ملقاة بلا حراك على الثلج، تبدو وكأنها فقدت كل قدرة على المقاومة.
ركلها سامر بغضب، متمتمًا بحدة: "سيكون أفضل لو كانت ميتة!"
قبل أربع سنوات، كان قد عثر على امرأة متشردة ترتدي ملابس رثة على أحد الأرصفة. بدافع اللطف، أخذها إلى شقته ليرعاها.
وبعد أن نظفت نفسها، اكتشف أنها كانت جميلة بشكل مذهل. لكنها كانت فاقدة للذاكرة، ومشوشة، فبدأ يعتني بها بشغف. كان يعاملها كعاشق أحمق، محاولًا أن يكون داعمًا، ومشجعًا، ومحبًا.
لكن الآن، لم يعد يرى تلك التصرفات بنفس البراءة. بل شعر بالقرف وهو يتذكر كيف وقع في شراك امرأة مجهولة ماضية. في داخله، كان يشك بصدق نواياها، متسائلًا إن كانت امرأة ضائعة كهذه قد استغلت في الشوارع. وإلا، فلماذا لا تشبه ليلي له في شيء؟
رغم شكوكه المتزايدة، لم يرغب أبدًا في إجراء اختبار الأبوة؛ كان يخشى أن يثبت أن ليلي ليست ابنته، فيصبح أضحوكة بين الناس.
استعاد هاتفه وغادر المكان، وتوجه إلى غرفة المكتب الدافئة حيث أجرى عدة مكالمات هاتفية:
"مرحبًا، السيد مالك، هذا أنا، سامر. هل لديك أي معرفة بعائلة شاكر من الدمرداش؟"
ثم اتصال آخر، "تحية طيبة، السيد رحيم! سنة جديدة سعيدة! هل سمعت من قبل عن عائلة شاكر؟ أوه، لا تقلق، إنها مجرد مسألة صغيرة في شركتي..."
في الخارج، كانت العاصفة الثلجية تشتد حول قصر هيبة، بينما بقيت ليلي ملقاة في الثلج البارد. لم يتبقَ الكثير من الوقت قبل حلول الظلام.
كانت واعية بالكاد، لكنها لم تكن تملك القوة لفتح عينيها.
لم تبكِ ليلي منذ وفاة والدتها. حتى عندما كان والدها يعاملها بقسوة، لم تذرف دمعة واحدة. لكنها في تلك اللحظة، شعرت برغبة شديدة في البكاء.
عندما اتصلت بعمها، لم يكن هناك رد. شعرت بشيء من الانكسار في قلبها.
هل يكرهونني أيضًا؟ أليس هناك أحد يحبني في هذا العالم؟
تساءلت بحزن، ماذا عن أمي؟ لو مت ورأتني أمي، هل ستكرهني أيضًا؟
ضغطت شفتيها اللتين تحولتا إلى اللون الأرجواني من شدة البرد، هامسة بصمت: "أمي... لن أبكي... ليلي فتاة جيدة..."
وفجأة، سمعت ضجة قوية من بعيد.
كانت هناك سبع سيارات قد وصلت إلى قصر هيبة، وخرج رجل يرتدي معطفًا أسود ثقيلًا من السيارة الأولى، وفتح بوابة القصر بشراسة!
كانت العاصفة شديدة لدرجة أن الثلج غطى جسد ليلي الصغير، لكنها بقيت هناك، كامنة، تنتظر...
نظر جمال حوله بقلق بالغ. على الهاتف، أخبرته ليلي أنها تجلس عند البوابة!
تحول وجهه إلى الشحوب عندما لمح كومة صغيرة من الثلج عند البوابة.
اندفع نحوها بسرعة وأزال الثلج، حتى احمرت يداه من شدة البرد. وأخيراً، وجد جسدًا صغيرًا مدفونًا تحت الثلج.
"ليلي؟!" نادى بصوت مرتعش.
التقط جمال الطفلة الصغيرة على عجل، وعندما رأى وجهها، أدرك أنها ليلي - الطفلة المحببة لعائلتهم، والتي تشبه شقيقته تماماً حين كانت صغيرة.
كانت ليلي تشعر وكأنها سقطت في حضن دافئ، فقد خلع أحدهم معطفه ليغطيها.
لكن بعد كل ذلك التجمّد، كانت لاتزال تشعر بالبرد القارس، فارتجف جسدها بلا سيطرة.
بجهد، فتحت ليلي عينيها ببطء، ورأت الرجل الذي يشبه والدتها إلى حد ما، ولكنه بدا مختلفًا أيضًا.
حركت شفتيها بصعوبة وهمست بضعف، "هل... أنت العم؟... لم أزعج أحداً... العم..."
وفجأة فقدت ليلي وعيها وتمتمت بكلمات غير مفهومة.
كانت مثل تمثال بارد وخالٍ من الحياة، مقارنة بجمال الذي غمرته مشاعر الحزن والخوف.
كاد جمال أن يذرف الدموع.
الطفلة الصغيرة في حضنه كانت ترتدي فقط ثيابًا خريفية رقيقة، قطنية، بلا دفء.
وجهها الصغير تحول إلى لون أرجواني من شدة البرد، وشفتيها تشققتا وصارتا تميلان إلى اللون الداكن.
كانت كأنها تمثال مجمّد، لم تستطع حتى التحرك، مما جعل جمال يخشى أن ينكسر هذا الكائن الصغير بلمسة منه.
"ليلي... العم هنا. سأعيدك إلى المنزل، لا تقلقي."
اختنق صوته وهو يتحدث، عاجزًا عن تخيّل كيف استطاعت ليلي أن تصمد وحدها في هذا البرد القاتل.
بل وكان يرتعد من فكرة أنها ربما كانت ستفارق الحياة لو أنهم تأخروا لحظات أخرى.
حمل جمال ليلي بحرص شديد، وعاد بها مسرعًا إلى السيارة.
"ليلي، ابقي معي." قال بصوت أجش وهو يحاول إيقاظها، "لا تنامي... ليلي، هل يمكنكِ قول شيء للعم؟ ليلي..."
لكن ليلي كانت قد غابت عن الوعي تمامًا.
هرع هادي، متعثرًا بعض الشيء، وعندما رأى حالة ملابس جمال المبعثرة، سأل بقلق، "كيف حالها؟"
كان جمال في حالة من الذعر، فصاح قائلاً، "علينا أن نسرع! يجب أن نذهب إلى المستشفى فوراً!"
كانت قلوب عائلة شاكر تنبض بالقلق والخوف وهم يتجهون بسرعة نحو المستشفى.
وفي الوقت ذاته، كان سامر قد تلقى نبأ وصولهم للتو، فاندفع مسرعًا إلى أسفل الدرج، ممزوجًا بين شعور بالفرح والترقب على وجهه.
عندما دخلت عائلة شاكر القصر، أوقفهم حارس الأمن، ولكن بمجرد أن قدّم أنور اسمه، سارع الحارس لإبلاغ سامر.
كان سامر مندهشًا من الأخبار، وفكر بسرعة في كيفية استغلال الفرصة للتواصل مع عائلة شاكر.
رغم أنه لم يكن يعرف سبب ظهور عائلة شاكر فجأة في القصر، إلا أنه أدرك أن هذه فرصة لن تتكرر، وأن هناك أملًا لعائلة هيبة أخيرًا!
فجأة، تذكر سامر أمرًا هامًا، فاستدار نحو الخادم قائلاً: "هل لا تزال تلك المشكلة عالقة في الفناء؟ تخلص منها فوراً!"
بصوت مضطرب تمتم قائلاً: "هذه النحس تسببت في موت والدتها، وها هي تجر شركتي نحو الإفلاس أيضًا."
لم يكن سامر ليسمح لها بإفساد هذه الفرصة للقاء عائلة شاكر.