مدينة الرحاب، منطقة الفيلات الأولى على الكورنيش - قصر هيبة.
كان اليوم يوم عيد، وزينت الأضواء الملونة المنزل، ناشرة دفئًا خفيفًا يبدد برودة الليلة لعائلة هيبة.
وفجأة، سُمع صدى صرخة عبر أرجاء القصر.
"آه–"
تلاها صوت ارتطام ثقيل، فقد سقطت امرأة حامل من أعلى الدرج بشدة!
انذهل الجميع وهرعوا نحوها.
سأل سامر هيبة، رئيس "مؤسسة هيبة"، بقلق: "داليا، هل أنتِ بخير؟"
كانت داليا شاحبة الوجه وهي تنظر إلى الدم الطازج الذي بدأ يتدفق من بين ساقيها. بألم شديد، قالت: "سامر... طفلنا... أرجوك، أنقذ طفلنا!"
بذهول، بادرت السيدة بهيرة أمجد بالسؤال: "ماذا حدث؟!"
رفعت داليا رأسها، ونظرت بعيون دامعة نحو أعلى الدرج.
تبع الجميع نظراتها، فوجدوا طفلة صغيرة تبلغ من العمر ثلاث سنوات تقف هناك، ممسكة بأرنبها اللعبة بقوة وكأنها تحتمي به من نظرات الجميع.
صرخ رامي هيبة بغضب: "هل أنتِ من دفع داليا؟!"
أخذت الطفلة تهمس وقد تجعدت شفتيها: "لم أفعل شيئًا... لم أكن أنا…"
بكلمات مرتعشة، توسلت داليا: "لا... أبي، ليلي لم تفعل هذا، إنها صغيرة ولم تقصد..."
لكن كلمات داليا زادت من الشكوك حول أن الخطأ كان من ليلي.
تجهم وجه سامر، وأمر بغضب: "احبسوها في العلية! سأتعامل معها حين أعود!"
سارع الآخرون بنقل داليا إلى المستشفى، فيما أُخذت ليلي الصغيرة نحو العلية، يجرها الخدم بلا شفقة.
رغم سقوط حذائها الصغير على السلالم، ظلت ليلي متماسكة، لم تبكِ ولم تتوسل.
في العلية المظلمة والباردة، حيث لا يصل الضوء ولا الدفء، كانت الرياح تصفر عبر النوافذ وكأن وحشًا على وشك الظهور...
تقلصت ليلي في زاوية، تمسك بأرنبها اللعبة بإحكام.
إنها تشعر بالبرد الشديد…
الحقيقة هي أنها لم تدفع أحدًا، ولكن لا أحد يصدقها.
في فصل الربيع البارد، تسللت الرياح والثلوج عبر شقوق النوافذ، لتغمر ليلي بشعور قاسٍ من الوحدة والبرودة.
وهكذا انقضى يومٌ كامل…
لم يكترث أحد بليلي، ولم يعلم أحد أنها كانت قد عوقبت من داليا في اليوم السابق، حتى أصبحت في حالة غيبوبة بسبب الجوع.
أمر رامي بعدم السماح لها بالخروج من العلية حتى تعترف بأن الخطأ كان خطأها.
"أمي..."
كانت شفتا ليلي ترتعشان وتتحولان إلى اللون الأرجواني من شدة البرد، وبدت تهمس بصوت خافت وهي تغلق عينيها: "أمي... لم أفعل شيئًا خاطئًا... ليس خطأي..."
كانت تعلم أن والدتها توفيت قبل عام بسبب المرض. ومنذ رحيل والدتها، تزوج والدها من امرأة أخرى، وسرعان ما حملت هذه المرأة بطفل آخر...
لكن تلك المرأة كانت ذات وجهين؛ كانت لطيفة مع ليلي في وجود الآخرين، لكنها تظهر وجهها الشرس وتقوم بمعاقبتها عندما تكونان وحدهما.
"أمي..." فكرت ليلي، وضغطت على أرنبها اللعبة، حتى فقدت الوعي من شدة التعب والجوع.
لم تعرف كم مضى من الوقت حين فُتح الباب فجأة بصوت قوي.
دخل سامر غاضبًا، وحمل ليلي الغائبة عن الوعي، وجرّها من الدرج وألقاها خارجًا في الثلج.
ارتجفت ليلي على السطح البارد وحاولت فتح عينيها بصعوبة...
"أبي... أنا جائعة..." همست.
سخر سامر بغضب: "قتلتِ الطفل الذي كان لداليا، وأول ما تقولينه لي أنكِ جائعة؟! لا أصدق أن لدي ابنة بهذا القدر من الشر!"
كانت عيون ليلي فارغة، ولم تكن قادرة على الكلام لشدة التعب والبرد.
زادت نظراتها الصامتة من غضب سامر، فلماذا ما زالت تتصرف بعناد رغم كل شيء؟!
"هذه غلطة مني كأب أنكِ أصبحتِ بهذه الشخصية السيئة! الآن بعد أن قتلتِ أخاكِ الذي لم يولد بعد، من يدري ماذا ستفعلين عندما تكبرين؟ يجب أن أعلمك درسًا الآن!"
نظر حوله والتقط مكنسة من الزاوية، ثم كسر رأسها، ممسكًا بعصا المكنسة السميكة.
ضربها بالعصا، مما جعل ليلي تصرخ من الألم!
"هل هذا خطؤك؟!" سألها بلهجة غاضبة.
"لم أكن أنا... حقًا لم أكن أنا!" قالت ليلي بصوت مرتعش وهي تقاوم بقدر ما تستطيع.
اشتعل غضب سامر أكثر عند سماع إنكارها، فقال بسخرية: "إذًا تعتقدين أن زوجة أبيك سقطت من الدرج بإرادتها؟ هل تتصورين أنها ستجازف بسقوطها وهي حامل في الشهر السادس؟!"
تذكر سامر ما حدث في المستشفى؛ فقد كانت داليا تنزف بشدة، ووصفت حالتها بأنها حرجة مرتين، ورغم ذلك، أصرت على ألا يتم لوم ليلي! قالت إنها طفلة صغيرة تأثرت بوفاة والدتها، وأنها ربما شعرت بالخوف من فقدان الاهتمام بعد قدوم أخيها، ولم تكن تقصد الدفع.
زاد ذلك من حنقه، فانهال على ليلي بالضرب وهو يصرخ: "توقفي عن الإنكار! اعترفي الآن!"
مع كل جملة، كان يوجه لها ضربة أخرى.
انشغل بضربها حتى لم ينتبه لهاتفه الذي سقط من جيبه. وعندما أصبح جسد ليلي مرهقًا ومتصلبًا من شدة الضرب، توقف أخيرًا، تاركًا إياها مطروحة على الأرض الباردة.
"ابقِ هنا واركعي حتى تخرج زوجة أبيك!" قال ذلك، ثم عدل ربطة عنقه وغادر، تاركًا عصا المكنسة المكسورة خلفه.
كان سامر يشعر بضغط كبير مؤخرًا؛ فقد كانت شركته تواجه ثغرة تقنية منذ نصف شهر ولم يتمكن من إيجاد من يساعده في حلها.
واليوم، حدثت الكارثة: داليا سقطت من الدرج، وفقدت الطفل الذي كانوا ينتظرونه بشغف، الطفل الذي كان أمل عائلة هيبة الوحيد في الاستمرار.
توالت الأحداث المؤسفة لتزيد من حدة توتره، حتى بات يفرغ كل غضبه وإحباطه على ليلي، متناسيًا براءتها وضعفها.
كان أرنب ليلي اللعبة قد تحطم، وحاولت الوقوف بعد أن دفعها، لكنها سقطت مجددًا على الأرض المثلجة، ليصدر صوت ارتطام ثقيل. بدأت تشعر وكأن الموت قريب.
"إذا مت، هل سأرى أمي أخيرًا؟" تساءلت ليلي، مستسلمة.
في تلك اللحظة، سمعت صوتًا خافتًا يهمس في عقلها.
"ليلي، اتصلي بعمك! عمك هو جمال شاكر، رقم هاتفه هو 159xxxxx..."
كلمات دافئة أعادت لها شيئًا من الأمل. فتحت ليلي عينيها بصعوبة، وركزت على الهاتف الأسود الذي كان ملقىً في الثلج بالقرب منها. بدأت غرائز البقاء تستيقظ فيها، وبدأت تزحف ببطء وبؤس نحو الهاتف، تقاوم قشعريرة جسدها المنهك.
"159..." كانت أصابعها المرتجفة تكافح للضغط على الأزرار، وفي النهاية، بعد جهد مضنٍ، تمكنت من إجراء الاتصال...
في الوقت ذاته، كان هادي شاكر يلقي محاضرة في منزل العائلة بفناء الدمرداش، وقال بلهجة جادة: "لقد مر عام آخر، جمال شاكر، متى ستختبر نفسك بدور الطبيب الرئيسي؟!"
تبادل الإخوة الثمانية من عائلة شاكر نظرات متفهمة، بينما لمس جمال أنفه بابتسامة خفيفة.
لكن فجأة، تغيرت نبرة الرجل العجوز وسأل بلهجة حزينة: "بالمناسبة، مرت أربع سنوات... ألم تجدوا أختكم بعد؟"
خيم الصمت على المكان، وتبدلت تعابير وجوه الإخوة، وانحنت شفاههم بأسى. كانت عيونهم الهادئة تحمل الآن حزنًا دفينًا.
كانت أختهم الصغرى، جميلة شاكر، قد شُخصت بمرض اللوكيميا الحادة في سن مبكرة. وعلى مدى سنوات، بذلت عائلة شاكر كل جهد لرعايتها، من توفير نقل الدم، إلى العلاجات المضادة للعدوى، وحتى زراعة النخاع العظمي...
لكن حالتها تدهورت تدريجيًا، حتى باتت تؤثر على ذاكرتها.
ثم، قبل أربع سنوات، اختفت جميلة فجأة، دون أثر.
كان جمال، الطبيب في مستشفى الأمل للأورام، هو المسؤول عن علاجها. في اليوم الذي اختفت فيه، كان منشغلًا بإنقاذ حياة مريض في حالة حرجة، وعندما عاد... كانت جميلة قد اختفت.
منذ ذلك اليوم، كان يعيش بذنب قاتل؛ رغم براعته الطبية، شعر أن حياته توقفت عند تلك اللحظة، وكأن شيئًا بداخله قد انهار.
كان لعائلة شاكر ثمانية أبناء، وجميلة كانت الوحيدة بينهم. بعد اختفائها، انهارت صحة والدتهم بثينة فجأة، وأصبح مزاج والدهم هادي متقلبًا، متأرجحًا بين الأمل واليأس.
كانت حمولة ثقيلة تثقل قلوب الجميع في عائلة شاكر، تُلقي بظلالها على حياتهم وتجعلهم يعيشون في حالة من القلق وعدم الراحة.
أنور شاكر، الابن الأكبر والرئيس التنفيذي لإمبراطورية أعمال العائلة، كان يعمل بلا كلل ليلًا ونهارًا، وكأن العمل بات وسيلته الوحيدة للهروب من مشاعره المؤلمة. ومع ذلك، تدهورت صحته بسبب الضغط المستمر، مما اضطره لتناول الأدوية يوميًا.
أما باهر شاكر، الابن الثالث والطيار البارز لشركة سويفت للطيران، فقد تأثر أيضًا بهذا الحزن العميق. فشل في اجتياز الاختبارات النفسية بعد اختفاء أخته، وأصبح في إجازة مطولة لمدة أربع سنوات.
وأما الإخوة الآخرون...
ساد الصمت غرفة المكتب، حيث خيمت الكآبة على وجوه الجميع، وفجأة، كسر الصمت صوت رنين هاتف جمال!